الباب الضيق والحرية
"ادخلوا من الباب الضيق. لأن الباب الواسع والطريق الممدود يؤديان إلى الهلاك، وكثيرون هم الذاهبون به. أما الباب الضيق والطريق الضيق فيؤديان إلى الحياة، وقليلون هم الذين يجدونه." (متى 7: 13-14)
الحرية الحقيقية تشمل أخلاقًا قائمة على الإرادة الحرة، والفضيلة، والوعي بالمسؤولية. فالحرية ليست فوضى، بل هي وجود الإنسان بوفاء واعٍ عميق ومسؤولية تجاه نفسه والحياة. وهذه المسؤولية تشمل الأفعال التي تعود بالنفع على الآخرين أيضًا. بالتالي، الحرية الحقيقية هي أن يصبح الإنسان هادئًا بما يكفي لسماع صوته الداخلي، شجاعًا لمواجهة ظلامه، وناضجًا لينتظر نتائج اختياراته بحب ورضا. وفق الثقافة السريانية، عندما ينسى الإنسان النفس المقدسة التي تلقاها من الله – أي جوهره – يتشبث بالعالم المادي بشكل مفرط، وينطفئ ضوء داخله، ليخفت صوت الروح. يضطرب التوازن بين الروح والجسد. حين تضعف الروح، يثقل الجسد؛ فتزداد الشهوات والآمال اللامشبعة وتأسر الإنسان. وهكذا يجد الإنسان نفسه على عتبة باب: باب الحق. هذا الباب الضيق، بحسب تعاليم يسوع المسيح، يعني التحرر والنجاة بعد التخلي عن التعليقات الدنيوية. هذا الباب ليس واسعًا ولا مزخرفًا، بل ضيق وبسيط. فكلما تمسك الإنسان بالعالم بلا وعي، وتسلط الغرور عليه، زاد ثقله ولم يستطع العبور من هذا الباب. إنه الباب الذي يُطهّر الإنسان من الطبقات القذرة، الأقنعة، الأعباء الزائدة، والتوقعات العمياء. والحرية الحقيقية هي لأولئك الذين يجدون الشجاعة لعبور هذا الباب الضيق. لماذا هذا العناء الكبير؟
لأن الإنسان في عصرنا يجد صعوبة في الحفاظ على التوازن الدقيق بين الروح والمادة. اشتدت شهوات الجسد، وخفت صوت الروح. تعلم الإنسان أن يجد الزاد المادي، وأن يجهز موائد كثيرة ويتكدس بزيادة، لكنه جوع روحه وعطش داخله بقي. يقول المسيح: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله." (متى 4: 4)
هذه العبارة تذكرنا بأن الإنسان لا يعيش فقط بالخبز المادي. فالخبز يُغذي الجسد، أما كلمة الله الخارج من فمه فهي كل خير إلهي، حكمة، حق، ومحبة تغذي الروح. يمكن أن تكون هذه الكلمة في صورة صلاة، ترنيمة، فعل رحمة، تعزية، نشاط ثقافي أو لمسة فنية. كل نفس خير يحيي نور داخلك هو كلمة الله المُنفس. حين ينشغل الإنسان بالتركيز على الخارج وينسى العالم الداخلي، يُترك الروح غير منظّم ومُهمل. هكذا يتضيق باب القلب، يُغلق الممر، ويثقل حمل الروح ويعجز عن تحمله. الصعوبة الحقيقية اليوم تكمن في هذا: الجسد شبعان والروح جائعة. الموائد مليئة والقلوب خاوية. الغذاء الحقيقي للإنسان ليس نعم هذا العالم فقط، بل كل خير وحكمة ومحبة يهبها الله لنا في كل لحظة. عندما يتذكر الإنسان هذه النعم وينقلها إلى الحياة ويضاعفها، يتسع الباب؛ وإذا نسيها تضيق. سر العبور من الباب الضيق
العبور يبدأ بقبول الإنسان لحياته كما هي. حسب الحكمة السريانية، الحياة هدية من الله. بعض الطرق سهلة وبعضها صعبة. يولد البعض في عائلات صحية، وبعضهم في فقر. يحمل البعض وحشة، ويحمل البعض الآخر عبء المسؤولية. كل ذلك معلم يذكرنا بالاتزان الداخلي، الجوهر، والصبر. عندما تصعب الحياة، يبحث الإنسان عن ملجأ: صلاة، مأدبة أصدقاء، ساحة دير، ترنيمة، كلمة حكيمة، أو حديث صادق... كلها تغذي الروح وتخفف عن الجسد العبء وتصحح التوازن الداخلي. الحفاظ على توازن الروح والجسد
تقول الحكمة السريانية: إن لم تتغذ الروح، يهدر الجسد؛ وعندما يهيج الجسد ينطفئ نور الروح. والحفاظ على التوازن ممكن بترويض الشهوات وإطعام الروح. كما يقول القدماء: "إدخال الجمل من ثقب الإبرة"، لأن الروح لا تلمع إلا إذا اجتاز النفس ذلك الممر الضيق. الإنسان دومًا يريد المزيد؛ وكلما زاد الطلب زاد التقييد. العبور من الباب الضيق هو التخلص من الزوائد وتبسيط التوقعات. طلب المزيد من الزوج، الأسرة، الأطفال أو الناس يشدد الباب. كل إنسان بحجم إنسانيته؛ والمطالبة بالمزيد تغلق الباب. قوة ضبط النفس والسيطرة الذاتية
في الثقافة السريانية، الطريق لحفظ التوازن الداخلي هو ضبط النفس والسيطرة الذاتية. يسمع الإنسان صوته الداخلي، يفكر قبل الكلام، ويتنفس قبل اتخاذ القرار. يسأل نفسه قبل شراء شيء: هل أحتاج هذا حقًا؟ هل يغذي روحي أم يزيد حمل جسدي؟ ضبط النفس يعني معرفة ما تريد؛ والسيطرة الذاتية تعني مقاومة الرغبات غير الضرورية. بدون هذين، لا تبقى الروح حية. شهوة الجسد المتواصلة تسرق الإنسان، فيفقد التوازن ويغلق الباب. الخروج من دور الضحية
اللجوء إلى دور الضحية يخمد الصوت الداخلي. يبحث الإنسان دومًا عن مذنب: الحياة، الناس، أو حتى الله... لكن نسمة الله في الإنسان. عندما ينقل القوة داخله لغيره، ينطفئ ضوؤه ويسكن روحه. الحقيقة أن الحرية تأتي من الداخل، ليست من الظروف الخارجيّة. تذكّر دائمًا النسمة التي نفخها الله فيك، واعتبر حدودك فرصة للنضج، لا سجنًا.السلام مع الحياة
العبور من الباب الضيق ممكن فقط بالمشي في الحياة دون عداوة وأقل شكوى. في قرى وأديرة سريانية قديمة، اكتفى الناس بالقليل. لأن الزيادة والقيد دومًا عبء على الروح. تتغير الحياة، لكن معاني الروح الثابتة لا تتغير. حين يتغير نظرنا، تقوى الروح، يخف الجسد، ويُفتح الباب. العبور هو إدراك ثقل الطموحات. اليوم بيت، غدًا سيارة، ثم لقب... هذه تمنح الإنسان قوة ظنية. لكن كلما كبرت الرغبة، ضعُف الإنسان. القوة الحقيقية ليست في الخارج، بل في الداخل. الحرية الداخلية
يقول مار اسحاق النينوي (القرن السابع): "من ليس حرًا داخليًا، لا يكون حرًا خارجيًا أبدًا." الحرية الحقيقية تبدأ بتحطيم قيود الرغبة. الروح تتغذى بالمسؤولية، والنفس تُروّض. حين تقوى الروح، يطيع الجسد. الإنسان يعيش في العالم لكن لا يكون منه. أن تموت قبل الموت هو أن تتخلص من النفس كقشر، وتترك الجوهر حيًا بالنور. هذا الإنسان يصبح شجرة عظيمة بجذور في أعماق الروح، تظلل الجميع بفروعها وظلها. من يحافظ على توازن الروح والجسد ويروض نفسه ويحافظ على نوره الداخلي، يمر من الباب الضيق. وكل عبور يخفف الحمل، وكل خفة تزيد الحرية، فتولد إنسانًا كاملاً وحكيما.
ملفونو يوسف بختاش
رئيس جمعية الثقافة واللغة السريانية وادبها / ماردين
You can also send us an email to karyohliso@gmail.com
Leave a Comment