توازن الحياة
المادة هي أداة تتيح لنا العيش في هذا العالم. أما المعنى فهو جوهر الخلق، وروح الوجود؛ هو أبدي وأزلي. الإنسان يأتي إلى الدنيا ليعيش المادة بشكل معنوي من خلال الشعور بالمعنى. لكن للوصول إلى المعنى، يجب أولاً مواجهة المادة ومحاسبتها، وفهم مكانها وتأثيرها في الحياة.
هذه العملية غالباً ما تخلق توتراً وقلقاً، مرتبطاً بالتجهيزات الداخلية للإنسان. لأن الإنسان الذي يتعلق بالمادة دون تمييز بين فوائدها وأضرارها يجد نفسه مع مرور الوقت في نار داخلية. هذه النار تحرق وتنقّي، وفي النهاية تذيب الذات الزائفة فتزول، ويبقى الحقيقي فقط. في تلك اللحظة يجد الإنسان نفسه في حضن القبول والجريان الطبيعي. يخطو نحو حرية الروح بصبر وأدب. يبدأ الوجود بالالتقاء بالمعنى.
الحياة توازن مبني على المادة والمعنى. هذا التوازن هو الحقيقة الأساسية للوجود. ما يحققه هو سيولة الروح. الروح السائلة تغذي نفسها وبيئتها. لكن التعلق المفرط بالمادة يخل بهذا الجريان؛ لأن المادَّية تثير الأنانية أيضاً. وهذا يؤدي إلى تلاشي المعنى وبرودة الروح. الروح الباردة لا يمكنها أن تجري. حيث يتوقف الجريان يبدأ التصلب. الحياة المتصلبة تفقد معناها. الفقدان التدريجي للمعنى يتحول إلى صدمات داخلية مع مرور الوقت. وهذه الصدمات تؤثر سلباً على الفرد والمجتمع بطرق مختلفة.
في أوقات كهذه، يجب على الروح أن تعود إلى الجريان كأمر ضروري وليس اختياراً. العسل لا يصنع من الخلية دون خروج النحل؛ والإنسان لا يمكنه أن يخلق معنى ما لم يخرج من غرفة الصدى الخاصة به. طريق تغذية الحياة يمر عبر الانفتاح الصادق على الآخرين. المعنى يثبت جذوره ليس فقط في الداخل، بل عندما ينفتح على الخارج.
في هذا السياق، من المهم ملاحظة كلمات الفيلسوف الألماني المعاصر فيلهلم شميدت:
"المادة أو الجماد هو الحالة الباردة للطاقة. الطاقة الباردة تتحول إلى مادة. على المستوى الاجتماعي، الصداقة هي الحالة غير الباردة للعلاقات الإنسانية أو سيولة الروح. يمكن أن نسمي هذه السيولة صدقاً. كل بنية اجتماعية تفتقر للصداقة هي حالة باردة للعلاقات الإنسانية. من الطبيعي أن السيولة لا تتراكم؛ ولكن مع البرودة والمادَّية تبدأ في العد والتراكم."
وكذلك كلمات الحكيم السرياني من منبج مار فيلوكسينوس الذي عاش في القرن الخامس، التي تشرح هذا التوازن من زاوية أعمق:
"عندما تتحكم الروح بالجسد، تكون كل ردود فعل الجسد صحية ومستقرة، وهذا يجلب توازناً يناسب الإنسان. لكن إذا بدأت إرادة الجسد في التحكم بالروح، تدخل ردود الفعل الحيوانية والأنانية، ويصبح الروح الذي يتعلق برغبات الجسد عاجزاً عن التحكم بالجسد، بل لا يستطيع أن يرى حتى نفسه. لا يعي رغباته أو شهواته. الروح التي تعمى برغبات الخطيئة هكذا، لا ترى نفسها ولا ما هو أبعد من نفسها."
البقاء في التوازن ممكن فقط من خلال السير في الطريق. مع تمنيات بحياة هادئة وذات معنى يستطيع فيها كل شخص أن يحافظ على هذا التوازن في رحلته الخاصة..
ملفونو يوسف بختاش
رئيس جمعية الثقافة واللغة السريانية وادبها / ماردين
You can also send us an email to karyohliso@gmail.com
Leave a Comment