باب العودة إلى الجوهر
كل شيء يبدأ بزرع بذرة. أفكارنا، كلماتنا، اختياراتنا... كلها بذور تُزرع سرا في تربة الغد. فما نزرعه اليوم، نحصد ثماره غداً.
الأفكار هي بذور هادئة لمشاعرنا المستقبلية. الكلمات تكون جذور علاقاتنا العميقة. واختياراتنا تبني أساسات شخصياتنا. لهذا السبب، يجب على الإنسان أن يعود إلى نفسه ويسأل نفسه كثيراً:
أي بذرة أزرع في التربة اليوم؟
أي فكرة أسقيها وأغذيها؟
أي عادة أنميها وأوسعها؟
الوعي يجب أن يكون صافياً كالماء النقي؛ والنية يجب أن تكون رياحاً بسيطة وعفوية. لأن بذرة صغيرة، إذا نمت في المكان الصحيح وبنية صافية، تتحول إلى غابة ضخمة توطن آلاف الكائنات.
أكثر الأخطاء شيوعاً في هذه الرحلة الداخلية هي الخلط بين الأداة والهدف. فالأداة موجودة لتقربنا من الهدف فقط. الأداة جسر، باب، أو درجة؛ تُستخدم وتُجتاز لخدمة منفعة إيجابية، ومن ثم نستمر. أما الهدف فهو الجوهر؛ مصدر النية وبوصلة الاتجاه.
لو تم تعظيم الأداة واعتبرناها الهدف النهائي، سيظل الإنسان حائراً في منتصف الطريق. تعظيم الأداة يعني حجب الهدف الأساسي. أما الصحيح فهو تقدير الأداة بمقدار وظيفتها، لكن إبقاء النظر مركّزاً على الهدف الأصيل والجوهر.
العودة إلى الجوهر هي تذكّر الإنسان لنفسه من جديد. كل خطوة نخطوها، كل أداة نستخدمها، وكل باب نمرّ به، إما تقربنا من حقيقتنا أو تباعدنا عنها.
نحن من نختار البذرة، نسقيها، ونحصدها. وكل حصاد هو صدى نيتنا. إذا كانت الجذور قوية والنوايا صافية، سيكون الطريق واضحاً. الهدف الحقيقي هو استخدام الأداة لخدمة منفعة إيجابية وللوصول إلى نفسنا وجوهرنا.
الحكمة السريانية تقول: "من يقدس الأداة يلوث الهدف". الهدف الحقيقي هو التوجه نحو الجوهر الإلهي بداخلنا ونوره، متجنبين الدوافع المضللة والقذرة. فكل إنسان يحمل في داخله نفَس الله؛ هذا الضوء هو مصباح الباحثين عن الطريق.
النفس تغطي الحقيقة بحجب متعددة. أذكى لعبتها هي خداع العقل. العقل الذي يصبح لعبة للنفس يلوثه المكر والأنانية والمصلحة. أما العقل الذي يتحد مع وعي محاط بالمحبة، فيتحالف مع الحكمة، الصدق، والشفافية، وهذا التحالف يحفظ توازن الإنسان الداخلي.
الروح تشبه ماسة متعددة الأوجه ذات جوهر من المحبة الصافية. لكن سطح الماسة مغطى بالطين الذي يسمى الأنا. الحياة هي رحلة طويلة لفك هذا الطين وتنظيف هذا السطح المقدس وتلميعه. بدون التلميع، لا تستيقظ طاقة الحياة العالية داخلنا - أي المحبة - ولا تنمو ولا تبث ضياءها.
من يكتشف ذاته الروحية، ويعرف كيف ينظف هذا الطين بصبر ليجعل جوهره يلمع، هم الأشخاص الناضجون؛ يجدون ذاتهم بالوجود. أما من لا يستطيعون التنظيف، فهم أسرى الطبقات الأناوية؛ بالرغم من نضجهم الجسدي، يبقون أطفالاً روحياً. يعرفون هويتهم ليس بالوجود، بل بالامتلاك أو الأخذ.
لذلك، الرحلة الحقيقية هي باب يفتح إلى الداخل وليس إلى الخارج. هذا الباب مخفي في داخل كل واحد منا. من يفتح هذا الباب بالصبر يروّض بذره الداخلي ويشهد استيقاظ غابة هادئة. ومن يحافظ على نوره الداخلي وينمّيه، يضيء طريقه ويصبح باباً للآخرين. باب العودة إلى الجوهر ليس نهاية، بل بداية تتفتح من جديد مع كل خطوة. وهذا الباب ينتظر أن يُفتح في كل قلب منا.
ملفونو يوسف بختاش
رئيس جمعية الثقافة واللغة السريانية وادبها / ماردين
You can also send us an email to karyohliso@gmail.com
Leave a Comment