السمو الإنساني
السمو الإنساني هو تجاوز الإنسان لحدود ذاته الضيقة، واكتشاف الجوهر الإلهي الكامن داخله؛ وهو القدرة على إحضار هذا الجوهر للحياة بالفضيلة، والرحمة، والمحبة. هذا ليس صعوداً نحو الأعلى، بل هو غوص عميق للوصول إلى مصدر الحقيقة. هو رفع ستائر الأنانية من "أنا" إلى "نحن"، ومن هناك إلى وعي “الوحدة مع كل الكائنات". محبة الإنسان السامي واسعة، وفهمه شامل. يستخدم حكمته ليس فقط من أجل المعرفة، بل لشفاء الجروح، وتقوية العدالة الاجتماعية، وبث الأمل. لا يحصر محبته في أطر ضيقة، إذ يعلم أن المحبة الحقيقية تزداد بالمشاركة والتضامن. حكمته ليست للتفاخر أو الترفع، بل للتحول وجعل الحياة أكثر قابلية للعيش. يوجه نور المعرفة لخدمة البشرية، ويضيء به الظلمات. لأن من عثر على الحقيقة، عرف قوة المحبة ونَفَس الرحمة الذي يحول. الشخص الذي يعيش بهذا الوعي لا يحتضن ذاته فقط، بل محيطه، بل كل الكائنات. هكذا يتجاوز السمو الإنساني كونه تجربة فردية ليصبح رحلة كونية شاملة. فالحقيقة تُكتشف عندما يتجاوز الإنسان ذاته ويرتبط بالآخرين. لذلك، السمو ليس صعودًا نحو السماء، بل غوص في أعماق الروح. تقول حكمة السريان القدماء إن الحقيقة لا تُعثر عليها إلا بالحفر الداخلي. لأن صورة الله ليست نورًا في السماوات البعيدة فقط، بل هي جوهرة مخفية في غرف الروح الهادئة. أفق الإنسان الذي يبقى محصوراً في حدود ذاته يكون مساوياً فقط لظلّه. أما الجوهر الإلهي الكامن في داخله يظهر حين تُرفع ستائر الأنانية. كما قال القديس مار أفرام (306-373): "أنر صورة قلبك، فلن تحتاج إلى البحث عن نور آخر في الخارج."
السمو ليس مجرد نضوج فردي، بل هو يقظة اجتماعية أيضاً. فالإنسان الذي يتجاوز ذاته يرى الآخر جزءاً لا يتجزأ من وجوده. فلا وجود لـ "الآخر"، بل هناك أخٌ واحد، نفخ الله فيه من نسمة روحه. المجتمعات مثل الأفراد تحمل روحاً، لكن المجتمع الذي يُغلق على نفسه ويخدم مصالح ضيقة يفقد روحه مع مرور الزمن. السمو الإنساني هو قوة تكسر حدود المجتمعات، وتحطّم أطر الأنانية، والقومية الضيقة، والتمييز. وكما قال مار يعقوب السروجي (451-521): "من يرسم حدود المحبة يقيد روحه."
لهذا، فإن الحرية والوحدة الحقيقية تكمن في محبة تتجاوز الحدود وتحتوي الجميع. فقط بهذه الطريقة يمكن للمجتمع أن يحقق الانسجام والسلام الذي يرن صداه في أعماق روحه. السمو الإنساني ليس نقطة وصول، بل حالة تطهير عميق تُعاد بناءها يومياً ضمن تعقيدات الحياة وفوضاها. يبدأ كل يوم بأمل يولد من جديد، ويُختبر وينضج مع كل امتحان، وكل ألم، وكل لقاء. المجد في هذه الرحلة لا يكون بالنظرة من الأعلى، بل بخفض القلب والانحناء بمحبة لرفع ثقل الآخر. يعلو روح الإنسان عندما يختار الابتعاد عن ظلال السيطرة الباردة ليصبح قوة مكملة وميسرة. فالحقيقة الإنسانية ليست في القوة، بل في القدرة على الوجود بمحبة، وتكثير الوحدة والفهم.
ملفونو يوسف بختاش
رئيس جمعية الثقافة واللغة السريانية وادبها / ماردين
You can also send us an email to karyohliso@gmail.com
Leave a Comment