الخير الواعي والشر الواعي
إن تكون إنساناً لا يعني فقط التواجد في العالم بالجسد؛ بل أن تمنح هذا الوجود معنى بالروح والعقل والقلب. الإنسان الحقيقي يكتمل بفعل نية الفعل ووعي الفعل. لأن الخير والشر لا يُعرّفان فقط بالنتائج الخارجية؛ بل بالوعي الداخلي. كل خير يُفعل بلا وعي هو ظل فاقد للنية؛ تأثيره سطحي ولا يترك صدى دائم. أما الخير الواعي فهو ليس فقط سلوكاً؛ بل نورٌ ينعش الروح ويكثّر المعنى. قيمة الخير تُقاس بالبصيرة والرحمة والفهم التي تحيط به. ومع ذلك، الشر أيضاً يكتسب بُعداً آخر عندما يصاحبه وعي. الشر الواعي ليس فقط انحرافاً أخلاقياً؛ بل خيانة الروح لنفسها. عندما يختار الإنسان الظلام عن قصد ورغبة، لا يؤذي الآخرين فقط، بل يضر نوره الذاتي. الشر الواعي لا يلوث الفعل فحسب، بل يصم الضمير ويعمي المرشد الداخلي. في الروحانية السريانية القديمة، يُربط قطبا الفعل هذين برنين روحي في العالم الداخلي للإنسان. كما قال مار اسحاق من نينوى: "الرحمة ليست مجرد فعل؛ بل نور من قلب الله." هذا النور لا يمكن أن يحمله إلا وعي متصل بالحب. لأن الخير إذا فُعل بوعي يشفي الفاعل أيضاً، لا الآخر فقط. كل فعل ينبع من القلب ويوجهه الإدراك يجلب وضوحاً ذهنياً. الروح تُغسل وترتقى وتنقى بهذا الفعل الواعي. الخير الواعي يسمح للإنسان بالتواصل مع جوهره الإلهي، وهذه العلاقة هي نقطة بداية النمو الروحي والتطور الأخلاقي. كذلك، الشر إذا كان واعياً، يجرح الروح. الشر الواعي يُعمق الظلام ويفتح باب الفساد على المستويين الفردي والاجتماعي. الشر الواعي ليس مجرد خطأ؛ بل إنكار للقيم. وهو مدمر روحياً لأن كل عمل مظلم صادر عن كتم صوت الضمير هو بعد عن الذات. لذلك، في التقليد السرياني، يُشجع على التأمل الداخلي قبل وبعد كل فعل، لأن للفعل أثر في العالم الداخلي كما له في الخارجي. ومن هنا تتكرر في الكنيسة الصلاة: "يا رب، اغفر لنا جميع خطايانا، العالمة والجاهلة، بإرادتنا أو بدون إرادتنا."
تعبير هذه الصلاة ليس فقط طلباً للمغفرة، بل وعي وانتباه ورغبة في تطهير داخلي. الوعي هو الخطوة الأولى نحو التغيير. الخير الواعي يرفع الإنسان في هذه الخطوة، والشر الواعي يوقعه فيها. الحياة رحلة لتطهير الروح. الاختبار الحقيقي لا يكمن في المظاهر، بل في الأثر الروحي للأفعال. عندما نسحب الأنا ونعطي الأولوية للضمير، نبني جسراً بين الحب والفكر. هذا الجسر ليس للضياء الفردي فقط، بل للسلام الاجتماعي أيضاً. الخير الحقيقي ينبع من حب واعٍ خالٍ من الحكم، السلطة والتوقع. هذا الخير يترك نوراً دون أن يتدخل في ظلمات الآخرين. يبدأ التحول الداخلي بوهج هذا النور الذي يدفئ الروح. إذاً، مسؤوليتنا الأساسية هي أن نحيا الخير بحب واع، وأن نعرف الشر بوعي ونحوله.
فلنوحد المعرفة بالضمير، والحب بالإدراك حتى ينمو نورنا في داخلنا وخارجنا. لأن الارتفاع الروحي الحقيقي لا يتم إلا بالخير الواعي. مع الحب والنور والوعي العميق.
ملفونو يوسف بختاش
رئيس جمعية الثقافة واللغة السريانية وادبها / ماردين
You can also send us an email to karyohliso@gmail.com
Leave a Comment